السبت، 28 مارس 2009

إبليس والشجرة

إبليس والشجرة

قال القرشي : سمعت سعيد بن سليمان يحدث عن المبارك أبي فضالة عن الحسن قال :
كانت الشجرة تعبد من دون الله فجاء إليها رجل فقال : لأقطعن هذه الشجرة ، فجاء ليقطعها غضباً لله فلقيه إبليس في صورة إنسان ، فقال : ما تريد ؟ قال : أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله ، قال : إذا أنت لم تعبدها فما يضرك من عبدها ؟ قال : لأقطعنها، فقال له الشيطان : هل لك فيما هو خير لك؟ لا تقطعها ولك ديناران كل يوم إذا أصبحت ، فوجد عند الصباح دينارين تحت وسادته، ثم أصبح بعد ذلك فلم يجد شيئاً ، فقام غاضباً ليقطعها فتمثل له الشيطان في صورته وقال : ما تريد ؟ قال : أريد قطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله تعالى ، فضرب به الأرض وخنقه حتى كاد يقتله، قال : أتدري من أنا ؟ أنا الشيطان ، جئت أول مرة غضباً لله فلم يكن لي عليك سبيل ، فخدعتك بالدينارين فتركتها ، فلما جئت غضباً للدينارين سُلطت عليك .
وهكذا كما رأيت يا أخي استطاع الشيطان أن يخدع العابد ببريق الدينارين اللذين ظن العابد أنهما سيكونان سببا في سعادته ولكنهما كما رأيت كانا سبباً في تعاسته كما جاء في الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار) : من وينطبق هذا القول على هذا العابد الذي باع آخرته بدنياه فكان لعبة في يد الشيطان الذي ما سلط عليه كما عرفت إلا بعد أن خرج الإخلاص من قلبه .

*** *** *** ***
الــعــلم والـمـــال
من ضاق ماله كثر همه ، ومن اتسع علمه قلّ همه ، ولإن تقلل همومك بكثرة العلم خير من أن تقللها بسعة المال ، فقلَّ أن يسلم غني من المهالك، وقلَّ أن يقع عالم فيها ، وقلَّ أن رأيت إنساناً اجتمع له العلم الغزير والمال الكثير مع سلامة من المهالك وبسطة في عمل الخير، ولكن مثل هؤلاء فاقرأ عنهم في التاريخ.
*** *** *** ***

قال أبو الطيب المتنبي :
ما كل ما يتمـنى الـمرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

***

وقال أبو العتاهية:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
تقلب عـريانا ولو كان كاسيا

الشيطان وبرصيصا العابد

الشيطان وبرصيصا العابد *

قال إبن عباس رضي الله عنهما :
كان زاهد فيما مضى يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين ، وأن إبليس أعياه في أمر اغوائه فلم يستطع ، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال : الا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض(1
) لإبليس : أنا أكفيك : فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه ، وكان لا ينفتل(2) عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ، ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة ، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على صلاته وعلى العبادة في أصل صومعته ، فلما انفتل ، برصيصا أطل من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلى في هيئة حسنة من الرهبان ، فلما رأى ذلك من حاله قال له : إنك ناديتنى وكنت منشغلاً عنك فما حاجتك ؟ قال : حاجتي أنى أحببت أن أكون معك واتأدب بك واقتبس من عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال برصيصا : أنا في شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبا ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي ، فلم يلتف اليه برصيصا أربعين يوماً بعـد، فلما انفتل رآه قائمـاً يصلى ، فلما رأى شـدة اجتهاده قال له : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك : قال : فاذن له فارتفع إليه في صومعته وأقام معه حولا كاملاً يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوما مرة وربما يزيد إلى الثمانين ، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده تقاصرت إليه نفسه(3) وأعجبه شأن الأبيض ، لما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا أني منطلق فإن لي صاحباً غيرك ، ظننت انك أشد اجتهادا مما أرى وكأنه بلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك برصيصا أمر شديد وكره مفارقته لما رأى من شدة اجتهاده فلما ودعه قال له الأبيض : ان عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير لك مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافى بها المبتلى والمجنون . قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلاً وإني أخاف أن علم الناس به شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه الدعوات ثم أنطلق حتى أتى أبليس ، فقال : والله أهلكت الرجل .
قال : فأنطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله : إن بصاحبكم جنونا أفاعالجه ؟ فقالوا : نعم . فقال: إني لا أقوى على جنيته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيشفيه، فانطلقوا إليه ، فسألوه ذلك فدعى بتلك الدعوات فذهب عنه الشيطان وكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو فيعافون ، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل فعذبها وخنقها ، ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال لهم : اعالجها ؟ قالوا : نعم قال : ان الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون فيه وتدعونها عنده اذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنه قد عوفيت تردونها صحيحة ، قالوا : فكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من ذلك ؟ قال : أبنوا صومعة إلى جانب صومعته ثم قولوا له: هي أمانة عندك فاحتسب فيها .
قال : فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته وقالوا : هذه أختنا فاحتسب بها ثم انصرفوا .
فلما ألتفت برصيصا من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده ودخل عليه أمر عظيم ، فجاءها الشيطان فخنقها فدعى برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان ، ثم أقبل على صلاته ثم جاء الشيطان فخنقها وكانت تكشف عن نفسها : فجاءه الشيطان وقال: واقعها(4
) فتتوب بعد أن تدرك ما تريده منها ولم يزل به حتى واقعها ، ثم لم يزل على ذلك يأتيها زمناً حتى حملت وظهر حملها .
فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها فتتوب ، فاذا سألوك فقل : ذهب بها شيطانها فلم أقو عليه : فدخل برصيصا فقتلها . ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل . فجاء الشيطان وهو يدفنها برصيصا ليلا فأخذ بطرف أزارها ، فبقي طرف أزارها خارجاً من التراب ، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم ، وكانوا يسألونه عنها فقالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا ؟ فقال : جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه ، فصدقوه وانصرفوا ، فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان أكبرهم في منامه فقال: ويحك أن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا ودفنها في موضع كذا وكذا فقال الأخ : هذا حلم وهو من الشيطان . برصيصا خير من ذلك . قال : فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال أصغرهم لأخوته : والله لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط : قد رأيت مثله ، فقال الأكبر : وأنا رأيت مثله .
فانطلقوا إلى برصيصا فقالوا : ما فعلت بأختنا ؟ فقال: أليس قد اعلمتكم ؟، فاستحيوا منه وقالوا : والله لا نتهمك ، فانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم أنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن طرف إزارها خرج من التراب ، فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم ومعهم الفؤوس والمساحى فهدموا صومعته وانزلوه ثم كتفوه فانطلقوا به الى الملك فأقر على نفسه ، وذلك أن الشيطان أتاه فقال تقتلها ثم تنكر ؟ أعترف. فلما أعترف أمر الملك بقتله .
فلما صلب أتاه الأبيض فقال : أتعرفني ؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمك الدعوات فاستجيب لك ، ويحك أما استحييت في أمانة خنت أهلها وانك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل ، أما استحييت ، فلم يزل يغويه ، ثم قال في آخر ذلك : الم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس ، فإن مت على هذا الحال لم يفلح أحد من نظرائك قال : فماذا أصنع ؟ قال : تفعل ما آمرك حتى أنجيك مما أنت فيه ، فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك، قال : وبم تأمرني ؟ قال : تسجد لي ، قال : أفعل ، فسجد له، ثم قال له الشيطان : هذا الذي أردت منك ، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك : (إِنَّي بَرِيءٌ مِّنْكَ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).

***
· فتأمل أخا الإسلام ، كيف استطاع الشيطان الرجيم إغواء هذا العابد الذي كان نشيطاً في عبادته لله تعالى ، والذي أحتال عليه الشيطان حتى أوقعه في شباكه بما أوتى من مكر وخداع وتزييف للحقائق . ثم بعد ذلك وبعد أن أوقعه في جريمة الزنا ، والقتل وأخرجه من حظيرة الإيمان بالله : تبرأ منه.
وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في سورة الحشر :{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر : 16] .
وفي هذا المعنى ورد قوله وتعالى :
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. [ إبراهيم ـــ22].
فمعنى هذه الآية كما جاء في كتب التفسير : أن إبليس عندما أجتمع حوله أهل النار يلومونه – قال لهم : (أن الله وعدكم وعد الحق) : أي بالبعث والجزاء ، (ووعدتكم فأخلفتكم): أي ووعدتكم أنه غير كائن ، فأخلفتكم أي تبين خلافه . (وما كان لي عليكم من سلطان) : أي ما كان لي عليكم من قوة وقدرة أقهركم بها على متابعتي (الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) أي : على أجابتكم لي ( ما أنا بمصرخكم) أي مغيثكم من العذاب ( وما أنتم بمصرخي) أي من العذاب .
ثم بعد ذلك يعلن براءته من هؤلاء الذين أتبعوه فيقول : (أني كفرت بما أشركتمون من قبل) : أي تبرأت وأنكرت إشراككم أياي مع الله حيث أطعتموني في وسوستي لكم بالشرك.
ثم يقرر بعد ذلك مصيره فيقول : (إن الظالمين لهم عذاب أليم) وقيل: هذا الجزء وهو تقرير الله سبحانه وتعالى عن الشيطان .
· فلاحظ كل هذا أخا الإسلام وتبرأ من هذا اللعين قبل أن يتبرأ منك ، وتذكر دائماً وأبداً أنه يحرص على ضياعك وخروجك من هذه الدنيا بدون حسنة واحدة .
وقد قرأت في هذا أنه رأى إبليس رجلا يجلس بجوار جدار أوشك على السقوط ، فانتشل الرجل من يده بعيداً عن هذا الجدار الذي سقط بعد هذا مباشرة ففرح الرجل بنجاته من هذا الهلاك الذي كان محققاً لولا إنقاذ هذا الرجل له .
فيقول له إبليس : أني ما فعلت هذا حبا فيك ، ولكن مخافة أن تموت شهيداً.
· فهذا يا أخي هو إبليس اللعين الذي يحذرنا الله سبحانه وتعالى منه ومن فتنه فيقول : {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
[الأعراف:27].

*** ** *** *** ** ***
الشهوات لا تصنع تاريخاً
ما رأيت تاريخاً صنعته الشهوات والملذات ، ولكن دعاة الشهوات والملذات عندنا يزعمون أنهم يصنعون تاريخنا الحديث ، فهل هم جاهلون؟ أم متآمرون، أم جمعوا بين الجهل والتآمر؟.
*** *** *** *** *** ****
قال أبو الطيب المتنبي:
ومن العداوة ما ينالُكَ نَفْعُهُ
ومِنَ الصَّداقةِ ما يضُرُّ ويُؤُلمُ
----------------------
*) بتصرف من ، كتاب مكائد الشيطان، ومن كتاب تفسير القرآن الكريم للحافظ ابن كثير لسورة الحشر الآية 16.
1) أكبر أعوان إبليس .
2) لا يفرغ من صلاته .
3) رأى نفسه أقل عبادة من الأبيض.
4) أي أزن بها .

قصة جريج العابد

قصة جريج العابد *

كان في الأمم السابقة كما في كل زمان أولياء صالحون ، وعباد زاهدون، وكان جريج العابد أحد هؤلاء الصالحين الذين برَّأهم الله عز وجل ، وأظهر على أيديهم الكرامات ، بعد أن تربص به المفسدون ، وحاولوا إيقاعه في الفاحشة ، وتشــويه سمعته بالباطل ، وقد قـص علينا خــبره ــ نبينا صلى الله عليه وسلم ــ في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ، عيسى ابن مريم، وصاحب جريج ، كان جريج في أول أمره تاجرا ، وكان يخسر مرة ويربح أخرى ، فقال : ما في هذه التجارة من خير ، لالتمسن تجارة هي خير من هذه التجارة ، فانقطع للعبادة والزهد ، واعتزل الناس ، واتخذ صومعة يترهَّب فيها ، وكانت أمه تأتي لزيارته بين الحين والحين ، فيطل عليها من شُرْفة في الصومعة فيكلمها، فجاءته في يوم من الأيام وهو يصلي ، فنادته، فتردد بين تلبية نداء أمه وبين إكمال صلاته ، فآثر إكمال الصلاة على إجابة نداء أمه ، ثم انصرفت وجاءته في اليوم الثاني والثالث ، فنادته وهو يصلي كما فعلت في اليوم الأول ، فاستمر في صلاته ولم يجبها ، فغضبت غضبا شديداً ، ودعت عليه بأن لا يميته الله حتى ينظر في وجوه الزانيات ، ولو دعت عليه أن يفتن لفتن كما أخبر النبي ــ r ــ في رواية أخرى ، فاستجاب الله دعاء الأم ، وهيأ أسبابه ، وعرضه للبلاء .
فقد تذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وزهده ، فسمعت بذلك امرأة بغي يضرب الناس المثل بحسنها وجمالها ، فتعهدت لهم بإغوائه وفتنته ، فلما تعرضت له لم يأبه بها ، وأبى أن يكلمها ، ولم يعرها أي اهتمام ، فازدادت حنقا وغيظا ، حيث فشلت في ما ندبت نفسها له من فتنة ذلك العابد ، فعمدت إلى طريقة أخرى تشوه بها سمعته ، ودبرت له مكيدة عظيمة ، فرأت راعيا يأوي إلى صومعة جريج ، فباتت معه ، ومكنته من نفسها ، فزنى بها ، وحملت منه في تلك الليلة ، فلما ولدت ادَّعت بأن هذا الولد من جريج ، فتسامع الناس أن جريجا العابد قد زنى بهذه المرأة ، فخرجوا إليه ، وأمروه بأن ينزل من صومعته ، وهو مستمر في صلاته وتعبده ، فبدأوا بهدم الصومعة بالفؤوس ، فلما رأى ذلك منهم نزل إليهم، فجعلوا يضربونه ويشتمونه ويتهمونه بالرياء والنفاق ، ولما سألهم عن الجرم الذي اقترفه ، أخبروه باتهام البغي له بهذا الصبي ، وساقوه معهم ، وبينما هم في الطريق ، إذ مروا به قريباً من بيوت الزانيات ، فخرجن ينظرن إليه ، فلما رآهن تبسم ، ثم أمر بإحضار الصبي ، فلما جاءوا به طلب منهم أن يعطوه فرصة لكي يصلي ويلجأ إلى ربه ، ولما أتم صلاته جاء إلى الصبي ، فطعنه في بطنه بإصبعه ، وسأله والناس ينظرون، فقال له : من أبوك ؟ فأنطق الله الصبي ، وتكلم بكلام يسمعه الجميع ويفهمه، فقال : أبي فلان الراعي ، فعرف الناس أنهم قد اخطأوا في حق هذا الرجل الصالح ، وأقبلوا عليه يقبلونه ويتمسحون به ، ثم أرادوا أن يكفروا عما وقع منهم تجاهه ، فعرضوا عليه أن يعيدوا بناء صومعته من ذهب ، فرفض وأصر أن تعاد من الطين كما كانت ، ولما سألوه عن السبب الذي أضحكه عندما مروا به على بيوت الزواني ، قال : ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليَّ أمي وهي النظر إلى وجوه المومسات .
قصة جريج كما روتها لنا كتب السنة قصة مليئة بالعبر والعظات فهي تبين خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما ، وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسـان ، وأن كل هذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها ذلك العبد الصالح ، كانت بسبب عدم استجابته لنداء أمه .
كما تؤكد هذه القصة على ضرورة الصلة بالله ومعرفته في زمن الرخاء، وأن يكون عند الإنسان رصيد من عمل صالح وبر وإحسان ، ينجيه الله به في زمن الشدائد والأزمات ، كما نجى جريجاً وبرأه من التهمة بسبب صلاحه وتقاه.
وفيها كذلك بيان حال الصالحين والأولياء من عباد الله الذين لا تضطرب أفئدتهم عند المحن، ولا تطيش عقولهم عند الفتن ، بل يلجأون إلى من بيده مقاليد الأمور ، كما لجأ جريج إلى ربه وفزع إلى صلاته ، وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وهي تكشف لنا عن مواقف أهل الفساد والفجور من الصالحين والأخيار في كل زمان ومكان ، ومحاولتهم تشويه صورتهم ، وتلطيخ سمعتهم ، واستخدام أي وسيلة لإسقاطهم من أعين الناس وفقد الثقة فيهم ، وبالتالي الحيلولة دون وصول صوتهم ورسالتهم إلى الآخرين .
فهؤلاء الساقطون في أوحال الرذيلة لا يطيقون حياة الطهر والعفاف ولا يهنأ لهم بال ، ولا يطيب لهم عيش إلا بأن يشاركهم الآخرون في غيهم وفسادهم ، بل ويستنكفون أن يكون في عباد الله من يستعلي على الشـهوات ومتع الحياة الزائلة ، كما قال عثمان رضي الله عنه : " ودت الزانية لو زنى النساء كلهن " .
كما أن هذه القصة تبين وقع المصيبة ، وعظم الفاجعة عند الناس ، عندما يفقدون ثقتهم فيمن اعتبروه محلاً للأسوة والقدوة ، وعنواناً للصلاح والاستقامة ، ولذا تعامل أهل القرية مع جريج بذلك الأسلوب حين بلغتهم الفرية ، حتى هدموا صومعته وأهانوه وضربوه .
فكل من تصدى للناس في تعليم أو إفتاء أو دعوة عليه أن يكون محلاً لهذه الثقـة ، وعلى قدر المسؤولية ، فالخطأ منه ليس كالخطأ من غيره ، والناس يستنكرون منه ما لا يستنكرون من غيره ، لأنه محط أنظارهم ، ومهوى أفئدتهم .
وقصة جريج تكشف عن جزء من مخططات الأعداء في استخدامهم لسلاح المرأة والشهـوة ، لشغل الأمة وتضييع شبابها ، ووأد روح الغيرة والتدين ، وهو مخطط قديم وإن تنوعت وسائل الفتنة والإغراء ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه أحمد .
وانظر كيف كان مجرد النظر إلى وجوه الفاجرات والعاهرات يؤذي قلوب الأولياء والصالحين ، ويعتبرونه نوعا من البلاء والعقوبة ، فكان أقصى ما تدعو به المرأة على ولدها أن يرى وجوه المومسات كما فعلت أم جريج ، وقارنه بحال البعض في هذا العصر الذي انفتح الناس فيه على العالم عبر وسائل الاتصال الحديثة ، وعرضت النساء العاريات صباح مساء عبر أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت ، فأصبحوا بمحض اختيارهم وطوع إرادتهم يتمتعون بالنظر الحرام ، ولا شك أن ذلك من العقوبات العامة التي تستوجب من المسلم أن يكون أشد حذرا على نفسه من الوقوع في فتنة النظر ، فضلا عن ارتكاب الفاحشة والعياذ بالله .
وهكذا يظهر لنا أن الابتلاء فيه خير للعبد في دنياه وأخراه ، إذا صبر وأحسن واتقى الله في حال الشدة والرخاء فجريج كان بعد البلاء أفضل عند الله وعند الناس منه قبل الابتلاء .

ما يستفاد من القصة:
· المتكلمون في المهد أكثر من واحد منهم غلام جُريج .
· عِظم بر الوالدين .
· قد يُجاب دعاء الأم على ولدها .
· تُقطع صلاة النافلة لإجابة الأم .
· استحباب الصلاة عند نزول الشدائد .
· ذم الكبر والإعجاب بالنفس .
· المظلوم له فضل ومزيَّة عند الله تعالى .
· من أكثر دعاء الله في الرخاء فإنه يستجيب له في البلاء.

*** **** ***

قال إبراهيم العباس الصُّولي:

ولرُبَّ نازِلةٍ يَضيق بها الفتى
ذرعاً وَعنْد الله مِنْها المخْرَجُ
ضاقت فَلَمَّا اسْتَحكَمَتْ حَلَقاتُها
فُرِجَتْ وكُنْتُ أَظُنَّها لا تُفرَجُ

----------------------------
*) ذكرها الحافظ ابن كثير ، في تفسير القرآن الكريم الآية 16من سورة الحشر.

عبقرية فريدة !

عبقرية فريدة!

عندما وصل المسلمون إلى مشارف مكة المكرمة ، ونزلوا عند الحديبية على بعد أميال من مكة وفي قلوبهم ذلك الأمل الحلو أن يطوفوا بالبيت العتيق رأوا ناقة الرسول تبرك ، وسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قوموا فانحروا ثم احلقوا) ولكن كيف يعودون بلا طواف ولا سعى ولا عمرة ؟! .
إن الأمل الحلو مازال يداعب أفئدتهم .. ورسول الله صلى الله عليه وسلام يأمرهم أن يتحللوا من إحرامهم فلم يحركوا ساكناً ! وهنا يدخل الرسول صلى الله عليه وسلمعلى زوجه أم المؤمنين أم سلمة وذكر لها ما لقى من الناس وأنه قال لهم : قوموا فانحروا واحلقوا فو الله ما قام منهم أحد.
هنا تفتق ذهن أم سلمة عن عبقرية قلّ نظيرها في التاريخ ! قالـــــت : يا نبي الله ، أتُحب ذلك ؟ قال : نعم.
قالت : أخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك ، وتدعو حالقك فيحلقك .
فخرج صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحداً حتى فعل ذلك .. نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا . إن الأمر اللفظي لم يحرك ساكن أحد . فليكن الأمر العملي هو الذي يحسم الموقف .
فياله من درس تربوي خالد فقهناه من أم سلمة رضي الله عنها خِرّيجة بيت النبوة عن دور القدوة العملية في التربية.

***

الموت ولا المعصية

الموت ولا المعصية

كان أحد التجار في منزله ذات ليلة فقُرع الباب ، وإذا بشابة جميلة تشكو إليه جوعها ، فحادثها ، ثم راودها عن نفسها ، فقالت :
المــــــــــوت جوعـــــــــــــاً .. ولا معصــــــــية ربـــــــــــــي !
ثم رجعت من حيث أتت .
وبعد أيام عادت وتوسلت إليه لكي يساعدها ، ويطعمها لوجه الله ، فقال لها : لا إلا أن تمكنيني من نفسك ، فقالت :
الموت خير من عذاب الله .. وخرجت وهي تقول:

أيـا واحــداً شــَــمِلَ الخَلْقَـا
بسَمْعِك ما أشكو.. بعينـِك ما ألْقى
لقد صدمتنى شدة وخصَاصَةٌ
ونازلني ما بَعضه يمنع النُطْقا (1)
كأني ظمـآن تَرَى الماءَ عينُـه
فلا غُلّة تُروَى ، ولا شربةٌ تُسقى
تُنازِعُنِي نَفْسي إلى نيـلِ أكلةٍ
لذاتُهـا تَفْنىَ وغُصَتُها تَبْقـَى
أأعصيك بعد الفضلِ والجوعِ والهُدى
وكيفَ وبالطاعتِ أَسْتَجْلبُ الرّزقا؟!
سأتْلِفْها في نيلِ حُــبك سيّدي
عساىَ بها أسْتَوْجِبُ القربَ والعِتْقَا!

فجزع التاجر لما سمع قولها ، وقال لها : عودي وكلي ما شئت من الطعام في أمان الله !
فقالت : اللهم كما أنرت قلبـه ، وهديت لبه ، فأجب دعــــاءه ، ولا ترده خائباً ، فكان ما دعت به ، وملأ الله قلبه بالإيمان ، فتزوجهـا وعاشا في أمان .

--------------------------------------
1) الخصاصة : الجوع . ونازلني قاتلنى وأصابني

الصبر على المصيبة

الصبر على المصيبة

لـمّا كان الصبر مأموراً به جعل الله سبحانه له أسباباً تعين عليه وتوصل إليه ، وكذلك ما أمر الله سبحانه بالأمر إلا أعان عليه ونصب له أسباباً تمدّه وتعين عليه ، كما أنه ما قدّر داءاً إلا وقدر له دواءً وضمن الشفاء باستعماله ، فالصبر وإن كان شاقاً كريهاً على النفوس فتحصيله ممكن ، وهو يتركب من مفردين : العلم والعمل ، فمنهما تركّب جميع الأدوية التي تداوى بها القلوب والأبدان ، فلابد من جزء علمي وجزء عملي فمنهما يركب الدواء الذي هو أنفع الأدوية. ([1])
قال الله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة : 155ــ157] ،وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر : 10] .
فاحمد الله أخي دائماً وابداً لأن البلاء وكل مصيبة تهون إن لم تكن في الدين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(ولا تجعل مصيبتنا في ديننا).
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها ، فقال لها : ((اتقي الله واصبري)) ، فقالت : وما تبالي بمصيبتي ، فلما ذهب قيل لها : إنه رسول الله r . فأخذها مثل الموت ، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوّابين ، فقالت يا رسول الله لم أعرفك . فقال : ((إنما الصبر عند أول صدمة)) . وفي لفظ ((عند الصدمة الأولى)) . وقوله الصبر عند الصدمة الأولى مثل قوله ((ليس الشديد بالصرعة (
[2]) إنما الشديد من يملك نفسه وقت الغضب([3]) ، فإن مفاجآت المصيبة بغتة ، لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها . فإن صبر للصدمة الأولى انكسر حدها وضعفت قوتها فهان عليها استدامة الصبر ، وأيضاً فإن المصيبة ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه ، وهي الصدمة الأولى . وأما إذا وردت عليه بعد ذلك توطن لها وعلم أنه لا بد له منها فيصبح صبره شبيه الاضطرار . وهذه المرأة لما علمت أن جزعها لا يجدي عليها شيئاً جاءت تعتذر إلى النبي r كأنها تقول له : قد صبرت ، فأخبرها أن الصبر إنما هو عند الصدمة الأولى([4]) .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال : ماتت رقية ابنة رسول الله r فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((دعهن يا عمر يبكين وإياكن ونعيق الشيطان)) ، ثم قال: ((إنه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله ومن الرحمة ، وما كان من اليد ومن اللسان فمن الشيطان)) (
[5]).
وفي جامع الترمذي ومسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم، فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجعك ، فيقول ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد (
[6]).
وفي صحيح البخاري من حديث أنس أن رسول الله r قال : ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر ، عوضته عنهما الجنة )) (
[7]) . يريد عينيه.
وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا جمع الله الخلائق نادى مناد أين أهل الصبر؟ فيقوم ناس وهم قليلون فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون : إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فمن أنتم؟ فيقولون : نحن أهل الفضل . فيقولون : ما كان فضلكم؟ فيقولون : كنا إذا ظُلمنا صبرنا ، وإذا أسيء إلينا غفرنا ، وإذا جُهل علينا حلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين(
[8]).
وفي بعض المسانيد عنه r أنه قال : (( قال الله عز وجل : إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً)) (
[9]).

***
قال الشاعر أبو صخر الهذلي :

ولـمَّا دعـوتُ الصَّـبْـر بَعْدَكِ والبُكا
أجاب البُكا طَوْعاً ولَمْ يُجِبِ الصَّبْـرُ

-----------------------------
1) الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية ، عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ، ص 64، المكتبة العصرية ، بيروت.
1) الصرعة : الذي يصرع الناس كثيراً ويغلبهم.
2) البخاري (6114) ، مسلم (2609)
3) البخاري (1283) ، مسلم (926) ، أحمد ( 3/143.
4) أحمد1/335 ، كنز العمال (42476).
5) الترمذي(1021) ، الترغيب والترهيب 6/337.
6) البخاري (5653).
7) إحياء علوم الدين 3/262
8) إتحاف الأشراف 9/27 / كنز العمال (6561).

الذي أبكاك هو الذي أضحكك ?!

الذي أبكاك هو الذي أضحكك *

ورد في بعض الآثار أنَّ الله عز وجل أرسل ملك الموت ليقبض روح امرأة من الناس فلما أتاها ملك الموت ليقبض روحها وجدها وحيدة مع رضيعاً لها ترضعه وهما في صحراء قاحلة ليس حولهما أحد ، عندما رأى ملك الموت مشهدها ومعها رضيعها وليس حولهما أحد وهو قد أتى لقبض روحها ، هنا لم يتمالك نفسه فدمعت عيناه من ذلك المشهد رحمة بذلك الرضيع ، غير أنه مأمور للمضي لما أرسل له ، فقبض روح الأم ومضى ، كما أمره ربه:
{ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } التحريم -6 .
بعد هذا الموقف ــ لملك الموت ــ بسنوات طويلة أرسله الله ليقبض روح رجل من الناس فلما أتى ملك الموت إلى الرجل المأمور بقبض روحه وجده شيخاً طاعناً في السن متوكئاً على عصاه عند حدّاد ويطلب من الحداد أن يصنع له قاعدة من الحديد يضعها في أسفل العصى حتى لا تنحته الأرض ويوصي الحداد بأن تكون قوية لتبقى عصاه سنين طويلة .
عند ذلك لم يتمالك ملك الموت نفسه من الضحك والتعجب من شدة تمسك وحرص هذا الشيخ وطول أمله بالعيش بعد هذا العمر المديد ، ولم يعلم بأنه لم يتبق من عمره إلا لحظات ، فأوحى الله إلى ملك الموت قائلاً: فبعزتي و جلالي إنَّ الذي أبكاك هو الذي أضحكك .سبحانك ربي ما أحكمك سبحانك ربي ما أعدلك سبحانك ربي ما أرحمك ، نعم ذلك الرضيع الذي بكى ملك الموت عندما قبض روح أمه هو ذلك الشيخ الذي ضحك ملك الموت من شدة حرصه وطول أمله.

***