الأحد، 15 مارس 2009

غزل في الجو

غزل في الجو *
أثناء رحلة قصيرة بالطائرة قمت بها من جدة إلى الخرطوم لم يكن على متنها سوى خمسة ركاب تفرقوا على مقاعدها هنا وهناك ، كل سابح في خياله أو نائم أو يقرأ ، قلت لنفسي وأنا كذلك أعطى لخيالي شيئاً من التفكير .. لم يمر وقت طويل حتى جاءتني احدى المضيفات فسلمت علي وجلست بجانبي وبدأت معي الحديث ، وصارت تسألني عن مدينة الخرطوم وأهم المعالم السياحية فيها ، وأشياءاً كثيرة .. أرجعتني هذه الأسئلة لتذكر بعض الأماكن التي لم أرها منذ أمد بعيد وانا في الغربة .. وفعلا شغلت علي هذه المضيفة وقت الرحلة ، وكانت أول رحلة أقوم بها في حياتي بدون ملل .. لا يذهب عقلكم بعيداً .. فحديثنا كان بريئاً وبعيدا عن السياسة والمال وغيره .. كانت لديها رغبة كبيرة في أن تتعرف على هذه المدينة ، وعللت ذلك بانها سوف لن تتمكن من إيجاد الوقت الكافي لكي تخرج من المطار لتتنزه في أرجائها كما أن رحلتها ستعود بمجرد أن تنزل ركابها ، كنت ألحظ في بريق عينيها بأنها تحاول أن تضع في مخيلتها نموذجاً أو تصوراً يليق بتلك المدينة بالمقارنة مع ما شاهدته من مدن أخرى . تطرق حديثنا إلى الشعراء المعاصرين ، قالت إنها قرأت لبعض الشعراء مثل محمد الفيتوري ، وإدريس جماع ، وأنها تحب الشعر كثيراً لأمثال أمير الشعراء أحمد شوقي ، ونزار قباني، وهنا تذكرت أن الشاعر العراقي "محمد الجواهري" أهدى قصيدة بعنوان (غزل في الجو) لمضيفة طيران أثناء رحلة جوية قام بها قال وهو يروي هذه الحادثة :
كنت فى الطائرة العراقية الى براغ سنة 1975حين اقتربت مني مضيفة حسناء أحبت أن تتعرف عليّ باعتبارها معجبة بقصائدي وتحفظ بعضها ، وطلبت منى أن أهديها بضع أبيات ، قلت في نفسي : لمن يكون الشعر اذا لم يكن للجمال ، ولتلك العيون العراقية الساحرة ، وهكذا بدأت وأنا محلق في الجو بكتابة هذه الأبيات على ورقة وعيناي على المضيفة التي لم أعرف اسمها ، ولكن وجهها ماثل أمامي :

وقـالــــت أتنظــــــــم الشــــــــــــعر
فقــلت وهـــــــا أنــــا الشــــــــــــعر
خـــــــذيـــــني بـــــــين كفــــــــيـك
فــــذاك " العجــــــــز" والصـــــدر
وصــــــــوغيني كــــمـــا تهـــــوين
ســـــــطرا حــــــــــــذوه ســـــــطر
وشــــــــــــــطريــن ســــــــــــويين
وإن شـــــــــــــئته شـــــــــــــــــطر
الا يــــــــا حـــــــلوة العــــــــــينين
يا مـــــن حـــــلوهـــــــــــا مــــــــر
ويا مشــــــــبوبة الخــــــــــديــــــن
عـــــندي منهـــــمــــــا جــــمــــــــر

فلما انتهيت من إلقاء قصيدة الجواهري ابتسمت ، وتجلت في عيونها الفرحة وقالت : القصيدة حلوة ، ولم تكمل بقية حديثها حيث انطلق النداء الخاص باستدعاء المضيفات .. فذهبت بخطوات رشيقة لكبينة القيادة ثم رجعت وواصلت الحوار معي كأن شيئاً لم يكن ، وإن كنت أقرأ في عينيها أمراً تحاول أن تخفيه عني ، يقول الحكماء: النساء لا يكتمن الأسرار لأنها لم تلبث أن أطلعتني بأن هناك مشكلة يواجهها قائد الطائرة، واسترسلنا في الحديث الشيق ، ولكن على مضض شعرته من خلال حديثها ، وعند الوصول تركتني وهي تشد على يدي شاكرة ، ثم إنني قابلت واحداً أعرفه يعمل في الطيران المدني ، قال لي وهو يضحك، معقول أنت كنت في هذه الطائرة؟! ، الحمد لله على سلامتكم ، طائرتكم عجلاتها نزلت في اللحظات الأخيرة ، وقد جهزت قوة الدفاع المدني المادة الرغوية لحاجة الهبوط الاضطراري للطائرة ، قلت له: الحمـــد لله على كرمه ولطفه .
----------
*) قصة حقيقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق