الأحد، 15 مارس 2009

الكأس المر

الكأس الـمـر *
"فاتن" امرأة جميلة ، في ريعان شبابها تزوجها رجل يدعى "فؤاد" في العقد الرابع من العمر بينما كانت هي في الخامسة عشرة من عمرها ، وقد أثمر هذا الزواج طفلتين مليحتين ، عبير في الرابعة من عمرها وأختها عفراء التي بلغت السنة الثانية .
كان فؤاد موظفاً في إحدى الشركات وكان يتقاضي راتباً لا بأس به ويمتاز بدماثة الخلق وطيبة القلب ، محباً ودوداً ومخلصاً لأسرته ، ويكرس معظم أوقاته في تقديم جل الاهتمام والرعاية لهم ، وكانت الشقة التي يقطنها ملكاً له . وكانت فاتن تتمتع بحرية مطلقة في تصرفاتها وتحب الأناقة والجمال ولذلك كانت كثيرة التسوق وتقوم بشراء أفخم الملابس والعطور وأدوات التجميل ، الأمر الذي كان يرهق كاهل زوجها بكثرة طلباتها المستمرة ومع كل ذلك لم يظهر لها فؤاد إمتعاضه أو تذمره ، بل كان يحاول بكل السبل إرضاء رغباتها التي لا تتوقف ، لأنه يحبها ويناديها دائماً بالحبيبة ويكون سعيداً حين يراها دائماً سعيدة .
أما "فاتن" فإنها مع كل هذا الاهتمام والمحبة الكبيرة من زوجها ، كانت تضمر في قرارة نفسها رأياً وأمراً بالغ الخطورة ، فهي تعتقد أنها على صواب في كل ما تقوم به ، ولا تدري أن ذلك قد يكون خطراً عليها ويهدد سعادتها الأسرية ، وأكد هذا أنها كانت ترفض هذا الرباط الأسري وترغب في الانفصال عن فؤاد بشتى السبل ، بل وتسول لها نفسها أمراً أعتقد أن أحداً لم يسبقها إليه ، فقد كانت ترى أن الحرية هي أن تكون بلا قيود ، ولابد لها من كسر هذا الارتباط الأسري . وسارت في هذا الاتجاه دون أن تدرك الخطورة من جراء ذلك .
وفي إحدى الأمسيات التي لا ينساها فؤاد ، جاءت فاتن من الخارج وجلست أمامه قائلة : طلقني يا فؤاد ، وكانت صدمة كبيرة عليه ولم يصدق ما يسمع فقال لها : وهو مذهول هل تمزحين يا فاتن .. ثم استدرك قائلاً .. هل صدر مني شيء لا سمح الله؟! ، بدأت فاتن تجهش بالبكاء وتكرر قولها : أرجوك طلقني خلاص أنا مللت من هذه العيشة ، تفاجأ فؤاد من أقوال زوجته ، وبادرها بعدة أسئلة .. هل بدر مني شيء لا سمح الله ؟ ، هل قصرت معك في شيء ، هل .. هل ؟! إذا ما السبب وراء هذا الطلب ؟! فلم تجب إلا بإصرارها على أمر الطلاق ، واستمروا على هذا الحال عدة أيام ، وهي مصرة على الطلاق ، قال لها: هل نسيتِ بناتك .. فلذات أكبادنا يا فاتن ؟! قالت انني أبغي الطلاق وحسب ، قال لها حاضر يا فاتن ، أنا مستعد لأن اترك لك البيت ، إبقي أنتِ مع البنات هنا حتى لا يفقدوا حنان الأمومة وهن في هذه السن الصغيرة في أمس الحاجة إليك ، قالت : أرجوك طلقني والبنات خليهم معك .
كانت فاتن ترغب في الطلاق لتنال حريتها الكاملة فقد وعدتها إحدى صديقاتها بتدبير عمل لها في أحد الفنادق الفخمة ، وهكذا ، حاول زوجها معها بشتى السبل ، ولكن لم تستجب لرغباته ولم تغير موقفها أبداً ، وقدم لها زوجها حلاً أخيراً فقال لها : إنني سوف أتنازل لك عن الشقة كي تعيشي فيها وبناتك وسوف أسكن أنا في مكان آخر ، وسوف أحضر لزيارة البنات من وقت لآخر .. ولكنها أصرت على الطلاق وقالت له: البنات خليهم معاك ، خليني أروح لحالي أرجوك .. كان فؤاد غير مصدق لما يسمعه ويراه ، وكان يقول في نفسه ، لابد أنها أصيبت بمس من الجنون ، كيف تترك أم فلذات أكبادها وترحل دون أن يكون في قلبها ذرة من الشفقة والرأفة والحنان . واستجاب فؤاد على مضض لمطالب ورغبات فاتن بعد فشل كل المحاولات في اقناعها بالتخلي عن الطلاق ..
وللأسف تم الطلاق وساد البيت حزن عميق وهدوء كهدوء المقابر كان لا يقطعه إلا صوت البنات وهن يسألن عن أمهن . فكان يجيبهن : ماما راحت تزور أهلها وراجعة .. كان يقولها بهدوء والابتسامة لا تفارق ثغره حتى يشعرهن بالاطمئنان ، ولكن قلبه من الداخل كان يغلي ألماً وحسرة عليهن .
التحقت "فاتن" بتلك الوظيفة التي كانت موعودة بها كموظفة استقبال في فندق كبير بالقاهرة ، وسارت الأيام رتيبة في حياتها الجديدة، وهي تنوي في قرارة نفسها بأنها سوف لن تعود إلى زوجها وبناتها ، ومرت الأيام ، وكان فؤاد يقوم بالعناية ببناته دون كلل أو ملل ، ولم تخطر في باله فكرة الزواج ، ومضت أربع سنوات وهو ينتظر على أمل أن تعود "فاتن" إلى صوابها ، ويعاودها الحنين لبناتها ، ولكن دون فائدة ، ولكن إلى متى ينتظر ، لابد أن يتزوج.
شاءت الأقدار أن يلتقي بهناء ، كانت امرأة تحمل كل مواصفات الأنوثة والرقة ، والحنان . أجتمع بها مرات وعرض عليها الزواج وقال لها: خذي راحتك وأعطني رأيك بعد قناعة تامة ، وطلبت منه أياماً ثلاثة للتفكير . بعد هذه الأيام ذهب فؤاد لمنزل هناء لمعرفة رأيها وهو يتمنى في قرارة نفسه أن توافق .. وكم كانت فرحته عندما سمع إجابتها بالموافقة على الزواج منه والعيش معه ومع بناته في شقته المتواضعة ، ووعدت بأن تكون لبناته الأم الحانية ، وتم الزواج بيسر وسهولة ، وانتقلت هناء إلى بيت زوجها وهي في منتهي السعادة ، ومضت الأيام والسعادة ترفرف على هذه الأسرة الصغيرة ، فؤاد يذهب إلى عمله وهو مطمئن ، وهناء تعامل البنات وتحنو عليهن كأحسن ما يكون .
أما فاتن فقد تعرفت على رجل يدعى "رامي" في الأربعين من عمره ، متزوج وله بنت وولد كان قادماً من السعودية لقضاء الإجازة مع أسرته، في مسقط رأسه في القاهرة ، حين التقى صدفة بفاتن في الفندق الذي تعمل فيه ، فأبدى إعجابه بها وبادلته نفس المشاعر ، وتكررت الزيارات واللقاءات بينهما . وعرض عليها رامي الزواج ، ولم تمانع مبدئياً وأمهلته فترة للتفكير .
وعرضت الموضوع على أسرتها فكان قرارهم الرفض لهذا الرجل الذي لديه زوجة وأطفال ، ولكنها بادرت إلى إتمام الزواج من "رامي" على جناح السرعة ، ضاربة برفض أهلها عرض الحائط ، إنها بزعمها حرة وهي التي ستعيش مع الشخص الذي تحبه ، وبعد أيام قليلة سافر رامي ، على أمل أن يرسل لزوجته الجديدة تأشيرة لتقيم معه في السعودية ، وفعلا بعد فترة وجيزة أرسل لها تأشيرة إقامة لتلحق بزوجها. وسافرت إليه ، وكانت مفاجأة لفاتن أن وجدت "رامي" يعمل سائقا لدى مؤسسة تجارية، فاستأجر لها شقة صغيرة مكونة من غرفة ومجلس وصالة صغيرة تتناسب مع راتبه الضئيل . كانت فاتن تحب أن تظهر بكامل أناقتها حيث تختار فساتينها وملابسها ، وأدوات المكياج بعناية فائقة دون أن تسأل عن الثمن، وكانت تقول : ليست هي أقل من "نعوم كامبل" ، أو " نيكول كيدمان" ، كيف ستتصرف مع ميزانية زوجها التي لا تتحمل هذه النفقات، كان رامي يجاريها في البداية ويعطيها من المال ما تريد ، وكان يحب أن يرى تلك الفساتين الجميلة التي تظهر جمال زوجته ، فهي بنظره ملكة جمال ، لكن لم يستمر الأمر على هذه الحال ، فلم يعد رامي يستطيع الصرف عليها بسخاء ، وطالبها بالتوفير ، فكانت ترد عليه بقولها: إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب . بعد سنوات ثلاث من الزواج أنجبا ولدين فزادت عليهم المصاريف ، واضطرت فاتن أن تعمل حاضنة لبعض الأطفال الصغار ، أولاد الطبيبات والموظفات القريبات من سكنها ، فكانت تجمع بهذا بعض المال الذي يلبي كثيراً من احتياجاتها . وبدأت تندم على ترك حياتها الأولى مع زوجها فؤاد وتقول : إنني ارتكبت في حقي وحق بناتي وزوجي الأول حماقة لا تغتفر ، أين هذه العيشة من عيشتها مع فؤاد الذي كان يحقق لها جميع رغباتهم دون تردد ، وكان لطيفاً ورقيقاً وعطوفاً لدرجة كبيرة . بينما رامي يسخط لمجرد أن تطلب منه شيئاً ، وعرفت أنه لا يتورع عن الزواج من أخرى ، لو وجد لديه قليلا من المال ، بدأت تعتقد أنها انخدعت حقاً فيه ، وضيعت زوجها الأول وبناتها وسنوات الانتظار التي انتظرها فؤاد على أمل أن ترجع إليه، وندمت كثيراً على فعلتها ، ولكن لات ساعة مندم .
وليزيد رامي دخله أمام ضغط المصاريف من زوجته الجديدة ، صار يعمل عملاً إضافياً في كثير من الاتجاهات المشروعة وغير المشروعة ، ولسوء حظه تورط في نقل بضاعة غير مرخصة ، دخل على أثرها السجن لمدة اثني عشر شهراً ، مما أضطر زوجته فاتن للسفر مع أولادها خلال هذه الفترة إلى مصر ، ولكنه عندما خرج من السجن لم يلحق بزوجته وأولاده، وإنما مال إلى رغبته في الزواج مجدداً بموظفة من إحدى الدول العربية تعمل في احدى الشركات ، ضارباً عرض الحائط بواجباته الزوجية والأبوية تجاه فاتن وولديه منها ، ولم يسأل عنهم إلا ما ندر ، وهكذا وجدت فاتن نفسها تشرب من نفس الكأس المر الذي سقت به زوجها الأول.

-------------
*) قصة حقيقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق