السبت، 28 مارس 2009

قصة جريج العابد

قصة جريج العابد *

كان في الأمم السابقة كما في كل زمان أولياء صالحون ، وعباد زاهدون، وكان جريج العابد أحد هؤلاء الصالحين الذين برَّأهم الله عز وجل ، وأظهر على أيديهم الكرامات ، بعد أن تربص به المفسدون ، وحاولوا إيقاعه في الفاحشة ، وتشــويه سمعته بالباطل ، وقد قـص علينا خــبره ــ نبينا صلى الله عليه وسلم ــ في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ، عيسى ابن مريم، وصاحب جريج ، كان جريج في أول أمره تاجرا ، وكان يخسر مرة ويربح أخرى ، فقال : ما في هذه التجارة من خير ، لالتمسن تجارة هي خير من هذه التجارة ، فانقطع للعبادة والزهد ، واعتزل الناس ، واتخذ صومعة يترهَّب فيها ، وكانت أمه تأتي لزيارته بين الحين والحين ، فيطل عليها من شُرْفة في الصومعة فيكلمها، فجاءته في يوم من الأيام وهو يصلي ، فنادته، فتردد بين تلبية نداء أمه وبين إكمال صلاته ، فآثر إكمال الصلاة على إجابة نداء أمه ، ثم انصرفت وجاءته في اليوم الثاني والثالث ، فنادته وهو يصلي كما فعلت في اليوم الأول ، فاستمر في صلاته ولم يجبها ، فغضبت غضبا شديداً ، ودعت عليه بأن لا يميته الله حتى ينظر في وجوه الزانيات ، ولو دعت عليه أن يفتن لفتن كما أخبر النبي ــ r ــ في رواية أخرى ، فاستجاب الله دعاء الأم ، وهيأ أسبابه ، وعرضه للبلاء .
فقد تذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وزهده ، فسمعت بذلك امرأة بغي يضرب الناس المثل بحسنها وجمالها ، فتعهدت لهم بإغوائه وفتنته ، فلما تعرضت له لم يأبه بها ، وأبى أن يكلمها ، ولم يعرها أي اهتمام ، فازدادت حنقا وغيظا ، حيث فشلت في ما ندبت نفسها له من فتنة ذلك العابد ، فعمدت إلى طريقة أخرى تشوه بها سمعته ، ودبرت له مكيدة عظيمة ، فرأت راعيا يأوي إلى صومعة جريج ، فباتت معه ، ومكنته من نفسها ، فزنى بها ، وحملت منه في تلك الليلة ، فلما ولدت ادَّعت بأن هذا الولد من جريج ، فتسامع الناس أن جريجا العابد قد زنى بهذه المرأة ، فخرجوا إليه ، وأمروه بأن ينزل من صومعته ، وهو مستمر في صلاته وتعبده ، فبدأوا بهدم الصومعة بالفؤوس ، فلما رأى ذلك منهم نزل إليهم، فجعلوا يضربونه ويشتمونه ويتهمونه بالرياء والنفاق ، ولما سألهم عن الجرم الذي اقترفه ، أخبروه باتهام البغي له بهذا الصبي ، وساقوه معهم ، وبينما هم في الطريق ، إذ مروا به قريباً من بيوت الزانيات ، فخرجن ينظرن إليه ، فلما رآهن تبسم ، ثم أمر بإحضار الصبي ، فلما جاءوا به طلب منهم أن يعطوه فرصة لكي يصلي ويلجأ إلى ربه ، ولما أتم صلاته جاء إلى الصبي ، فطعنه في بطنه بإصبعه ، وسأله والناس ينظرون، فقال له : من أبوك ؟ فأنطق الله الصبي ، وتكلم بكلام يسمعه الجميع ويفهمه، فقال : أبي فلان الراعي ، فعرف الناس أنهم قد اخطأوا في حق هذا الرجل الصالح ، وأقبلوا عليه يقبلونه ويتمسحون به ، ثم أرادوا أن يكفروا عما وقع منهم تجاهه ، فعرضوا عليه أن يعيدوا بناء صومعته من ذهب ، فرفض وأصر أن تعاد من الطين كما كانت ، ولما سألوه عن السبب الذي أضحكه عندما مروا به على بيوت الزواني ، قال : ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليَّ أمي وهي النظر إلى وجوه المومسات .
قصة جريج كما روتها لنا كتب السنة قصة مليئة بالعبر والعظات فهي تبين خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما ، وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسـان ، وأن كل هذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها ذلك العبد الصالح ، كانت بسبب عدم استجابته لنداء أمه .
كما تؤكد هذه القصة على ضرورة الصلة بالله ومعرفته في زمن الرخاء، وأن يكون عند الإنسان رصيد من عمل صالح وبر وإحسان ، ينجيه الله به في زمن الشدائد والأزمات ، كما نجى جريجاً وبرأه من التهمة بسبب صلاحه وتقاه.
وفيها كذلك بيان حال الصالحين والأولياء من عباد الله الذين لا تضطرب أفئدتهم عند المحن، ولا تطيش عقولهم عند الفتن ، بل يلجأون إلى من بيده مقاليد الأمور ، كما لجأ جريج إلى ربه وفزع إلى صلاته ، وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وهي تكشف لنا عن مواقف أهل الفساد والفجور من الصالحين والأخيار في كل زمان ومكان ، ومحاولتهم تشويه صورتهم ، وتلطيخ سمعتهم ، واستخدام أي وسيلة لإسقاطهم من أعين الناس وفقد الثقة فيهم ، وبالتالي الحيلولة دون وصول صوتهم ورسالتهم إلى الآخرين .
فهؤلاء الساقطون في أوحال الرذيلة لا يطيقون حياة الطهر والعفاف ولا يهنأ لهم بال ، ولا يطيب لهم عيش إلا بأن يشاركهم الآخرون في غيهم وفسادهم ، بل ويستنكفون أن يكون في عباد الله من يستعلي على الشـهوات ومتع الحياة الزائلة ، كما قال عثمان رضي الله عنه : " ودت الزانية لو زنى النساء كلهن " .
كما أن هذه القصة تبين وقع المصيبة ، وعظم الفاجعة عند الناس ، عندما يفقدون ثقتهم فيمن اعتبروه محلاً للأسوة والقدوة ، وعنواناً للصلاح والاستقامة ، ولذا تعامل أهل القرية مع جريج بذلك الأسلوب حين بلغتهم الفرية ، حتى هدموا صومعته وأهانوه وضربوه .
فكل من تصدى للناس في تعليم أو إفتاء أو دعوة عليه أن يكون محلاً لهذه الثقـة ، وعلى قدر المسؤولية ، فالخطأ منه ليس كالخطأ من غيره ، والناس يستنكرون منه ما لا يستنكرون من غيره ، لأنه محط أنظارهم ، ومهوى أفئدتهم .
وقصة جريج تكشف عن جزء من مخططات الأعداء في استخدامهم لسلاح المرأة والشهـوة ، لشغل الأمة وتضييع شبابها ، ووأد روح الغيرة والتدين ، وهو مخطط قديم وإن تنوعت وسائل الفتنة والإغراء ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه أحمد .
وانظر كيف كان مجرد النظر إلى وجوه الفاجرات والعاهرات يؤذي قلوب الأولياء والصالحين ، ويعتبرونه نوعا من البلاء والعقوبة ، فكان أقصى ما تدعو به المرأة على ولدها أن يرى وجوه المومسات كما فعلت أم جريج ، وقارنه بحال البعض في هذا العصر الذي انفتح الناس فيه على العالم عبر وسائل الاتصال الحديثة ، وعرضت النساء العاريات صباح مساء عبر أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت ، فأصبحوا بمحض اختيارهم وطوع إرادتهم يتمتعون بالنظر الحرام ، ولا شك أن ذلك من العقوبات العامة التي تستوجب من المسلم أن يكون أشد حذرا على نفسه من الوقوع في فتنة النظر ، فضلا عن ارتكاب الفاحشة والعياذ بالله .
وهكذا يظهر لنا أن الابتلاء فيه خير للعبد في دنياه وأخراه ، إذا صبر وأحسن واتقى الله في حال الشدة والرخاء فجريج كان بعد البلاء أفضل عند الله وعند الناس منه قبل الابتلاء .

ما يستفاد من القصة:
· المتكلمون في المهد أكثر من واحد منهم غلام جُريج .
· عِظم بر الوالدين .
· قد يُجاب دعاء الأم على ولدها .
· تُقطع صلاة النافلة لإجابة الأم .
· استحباب الصلاة عند نزول الشدائد .
· ذم الكبر والإعجاب بالنفس .
· المظلوم له فضل ومزيَّة عند الله تعالى .
· من أكثر دعاء الله في الرخاء فإنه يستجيب له في البلاء.

*** **** ***

قال إبراهيم العباس الصُّولي:

ولرُبَّ نازِلةٍ يَضيق بها الفتى
ذرعاً وَعنْد الله مِنْها المخْرَجُ
ضاقت فَلَمَّا اسْتَحكَمَتْ حَلَقاتُها
فُرِجَتْ وكُنْتُ أَظُنَّها لا تُفرَجُ

----------------------------
*) ذكرها الحافظ ابن كثير ، في تفسير القرآن الكريم الآية 16من سورة الحشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق