السبت، 28 مارس 2009

الشيطان وبرصيصا العابد

الشيطان وبرصيصا العابد *

قال إبن عباس رضي الله عنهما :
كان زاهد فيما مضى يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين ، وأن إبليس أعياه في أمر اغوائه فلم يستطع ، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال : الا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض(1
) لإبليس : أنا أكفيك : فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه ، وكان لا ينفتل(2) عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ، ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة ، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على صلاته وعلى العبادة في أصل صومعته ، فلما انفتل ، برصيصا أطل من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلى في هيئة حسنة من الرهبان ، فلما رأى ذلك من حاله قال له : إنك ناديتنى وكنت منشغلاً عنك فما حاجتك ؟ قال : حاجتي أنى أحببت أن أكون معك واتأدب بك واقتبس من عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال برصيصا : أنا في شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبا ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي ، فلم يلتف اليه برصيصا أربعين يوماً بعـد، فلما انفتل رآه قائمـاً يصلى ، فلما رأى شـدة اجتهاده قال له : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك : قال : فاذن له فارتفع إليه في صومعته وأقام معه حولا كاملاً يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوما مرة وربما يزيد إلى الثمانين ، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده تقاصرت إليه نفسه(3) وأعجبه شأن الأبيض ، لما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا أني منطلق فإن لي صاحباً غيرك ، ظننت انك أشد اجتهادا مما أرى وكأنه بلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك برصيصا أمر شديد وكره مفارقته لما رأى من شدة اجتهاده فلما ودعه قال له الأبيض : ان عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير لك مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافى بها المبتلى والمجنون . قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلاً وإني أخاف أن علم الناس به شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه الدعوات ثم أنطلق حتى أتى أبليس ، فقال : والله أهلكت الرجل .
قال : فأنطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله : إن بصاحبكم جنونا أفاعالجه ؟ فقالوا : نعم . فقال: إني لا أقوى على جنيته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيشفيه، فانطلقوا إليه ، فسألوه ذلك فدعى بتلك الدعوات فذهب عنه الشيطان وكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو فيعافون ، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل فعذبها وخنقها ، ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال لهم : اعالجها ؟ قالوا : نعم قال : ان الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون فيه وتدعونها عنده اذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنه قد عوفيت تردونها صحيحة ، قالوا : فكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من ذلك ؟ قال : أبنوا صومعة إلى جانب صومعته ثم قولوا له: هي أمانة عندك فاحتسب فيها .
قال : فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته وقالوا : هذه أختنا فاحتسب بها ثم انصرفوا .
فلما ألتفت برصيصا من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده ودخل عليه أمر عظيم ، فجاءها الشيطان فخنقها فدعى برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان ، ثم أقبل على صلاته ثم جاء الشيطان فخنقها وكانت تكشف عن نفسها : فجاءه الشيطان وقال: واقعها(4
) فتتوب بعد أن تدرك ما تريده منها ولم يزل به حتى واقعها ، ثم لم يزل على ذلك يأتيها زمناً حتى حملت وظهر حملها .
فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها فتتوب ، فاذا سألوك فقل : ذهب بها شيطانها فلم أقو عليه : فدخل برصيصا فقتلها . ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل . فجاء الشيطان وهو يدفنها برصيصا ليلا فأخذ بطرف أزارها ، فبقي طرف أزارها خارجاً من التراب ، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم ، وكانوا يسألونه عنها فقالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا ؟ فقال : جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه ، فصدقوه وانصرفوا ، فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان أكبرهم في منامه فقال: ويحك أن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا ودفنها في موضع كذا وكذا فقال الأخ : هذا حلم وهو من الشيطان . برصيصا خير من ذلك . قال : فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال أصغرهم لأخوته : والله لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط : قد رأيت مثله ، فقال الأكبر : وأنا رأيت مثله .
فانطلقوا إلى برصيصا فقالوا : ما فعلت بأختنا ؟ فقال: أليس قد اعلمتكم ؟، فاستحيوا منه وقالوا : والله لا نتهمك ، فانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم أنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن طرف إزارها خرج من التراب ، فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم ومعهم الفؤوس والمساحى فهدموا صومعته وانزلوه ثم كتفوه فانطلقوا به الى الملك فأقر على نفسه ، وذلك أن الشيطان أتاه فقال تقتلها ثم تنكر ؟ أعترف. فلما أعترف أمر الملك بقتله .
فلما صلب أتاه الأبيض فقال : أتعرفني ؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمك الدعوات فاستجيب لك ، ويحك أما استحييت في أمانة خنت أهلها وانك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل ، أما استحييت ، فلم يزل يغويه ، ثم قال في آخر ذلك : الم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس ، فإن مت على هذا الحال لم يفلح أحد من نظرائك قال : فماذا أصنع ؟ قال : تفعل ما آمرك حتى أنجيك مما أنت فيه ، فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك، قال : وبم تأمرني ؟ قال : تسجد لي ، قال : أفعل ، فسجد له، ثم قال له الشيطان : هذا الذي أردت منك ، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك : (إِنَّي بَرِيءٌ مِّنْكَ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).

***
· فتأمل أخا الإسلام ، كيف استطاع الشيطان الرجيم إغواء هذا العابد الذي كان نشيطاً في عبادته لله تعالى ، والذي أحتال عليه الشيطان حتى أوقعه في شباكه بما أوتى من مكر وخداع وتزييف للحقائق . ثم بعد ذلك وبعد أن أوقعه في جريمة الزنا ، والقتل وأخرجه من حظيرة الإيمان بالله : تبرأ منه.
وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في سورة الحشر :{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر : 16] .
وفي هذا المعنى ورد قوله وتعالى :
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. [ إبراهيم ـــ22].
فمعنى هذه الآية كما جاء في كتب التفسير : أن إبليس عندما أجتمع حوله أهل النار يلومونه – قال لهم : (أن الله وعدكم وعد الحق) : أي بالبعث والجزاء ، (ووعدتكم فأخلفتكم): أي ووعدتكم أنه غير كائن ، فأخلفتكم أي تبين خلافه . (وما كان لي عليكم من سلطان) : أي ما كان لي عليكم من قوة وقدرة أقهركم بها على متابعتي (الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) أي : على أجابتكم لي ( ما أنا بمصرخكم) أي مغيثكم من العذاب ( وما أنتم بمصرخي) أي من العذاب .
ثم بعد ذلك يعلن براءته من هؤلاء الذين أتبعوه فيقول : (أني كفرت بما أشركتمون من قبل) : أي تبرأت وأنكرت إشراككم أياي مع الله حيث أطعتموني في وسوستي لكم بالشرك.
ثم يقرر بعد ذلك مصيره فيقول : (إن الظالمين لهم عذاب أليم) وقيل: هذا الجزء وهو تقرير الله سبحانه وتعالى عن الشيطان .
· فلاحظ كل هذا أخا الإسلام وتبرأ من هذا اللعين قبل أن يتبرأ منك ، وتذكر دائماً وأبداً أنه يحرص على ضياعك وخروجك من هذه الدنيا بدون حسنة واحدة .
وقد قرأت في هذا أنه رأى إبليس رجلا يجلس بجوار جدار أوشك على السقوط ، فانتشل الرجل من يده بعيداً عن هذا الجدار الذي سقط بعد هذا مباشرة ففرح الرجل بنجاته من هذا الهلاك الذي كان محققاً لولا إنقاذ هذا الرجل له .
فيقول له إبليس : أني ما فعلت هذا حبا فيك ، ولكن مخافة أن تموت شهيداً.
· فهذا يا أخي هو إبليس اللعين الذي يحذرنا الله سبحانه وتعالى منه ومن فتنه فيقول : {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
[الأعراف:27].

*** ** *** *** ** ***
الشهوات لا تصنع تاريخاً
ما رأيت تاريخاً صنعته الشهوات والملذات ، ولكن دعاة الشهوات والملذات عندنا يزعمون أنهم يصنعون تاريخنا الحديث ، فهل هم جاهلون؟ أم متآمرون، أم جمعوا بين الجهل والتآمر؟.
*** *** *** *** *** ****
قال أبو الطيب المتنبي:
ومن العداوة ما ينالُكَ نَفْعُهُ
ومِنَ الصَّداقةِ ما يضُرُّ ويُؤُلمُ
----------------------
*) بتصرف من ، كتاب مكائد الشيطان، ومن كتاب تفسير القرآن الكريم للحافظ ابن كثير لسورة الحشر الآية 16.
1) أكبر أعوان إبليس .
2) لا يفرغ من صلاته .
3) رأى نفسه أقل عبادة من الأبيض.
4) أي أزن بها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق