السبت، 14 مارس 2009

الوفاء العظيم

الوفاء العظيم*
كان معاوية بن أبى سفيان ، واسع الحيلة عظيم الدهاء . ومن ذلك ، حيلته في قصة أرينب بنت إسحق ، التي كانت من أجمل نساء زمانها ، وأحسنهن أدباً ، وأرفعهن منزلة وأكثرهن مالا . وكان يزيد بن معاوية قد سمع بجمالها وما هي عليه من الأدب وحسن الخَلْق والخُلُق فَفُتِنَ بها، فلم يصبر على ذلك وخصَّ بسره أحد المقربين من معاوية ، اسمه رفيف ، فذكر ذلك رفيف لمعاوية ، وذكر شدة شغف يزيد بها ، وأنه ضاق ذرعاً بأمرها ، فبعث معاوية إلى يزيد ، فاستفسره أمره ، فبث له شأنه . فقال له معاوية: مهلاً يايزيد ، قال يزيد : علام المهل ، وقد أنقطع منها الأمل ؟ قال له معاوية : فإين حِجاك ومروءتك ؟ فقال يزيد : قد عيل الحِجى ونفد الصبر ، ولو كان أحد ينتفع به من الهوى لكان أولى الناس بالصبر عليه داود حين ابتلى به ([1]) فقال معاوية : ساعدني على أمرك بالكتمان ، فإن البوح به غير نافعك ، والله بالغ أمره فيك ولابد مما هو كائن . وكانت أرينب بنت إسحق ، مثلا لأهل زمانها في جمالها وشرفها وتمام كمالها وكثرة مالها ، فأخذ معاوية في الحيلة حتى يبلغ يزيد رضاه وينال غرضه ومناه . فكتب إلى عبد الله بن سلام – واليه على العراق – أن أقبل حين تنظر في كتابي ، لأمر فيه حظك إن شاء الله ، ولا تتأخر عنه.
وكان عند معاوية يومئذ بالشام أبو هريرة وأبو الدرداء ، صاحبا رسول الله r ، فلما قدم عليه عبد الله بن سلام ، أعدَّ له منزلاً حسناً ، وهيأه له، وأنزله فيه ، وبالغ في إكرامه . ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء : إن الله قد قسم بين عباده نعما ، أوجب عليهم شكرها ، وحتَّم عليهم حفظها ، فحباني عز وجل بأتم الشرف ، وأفضل الذكر ، وأوسع علىَّ في رزقه ، وجعلني راعي خَلقه ، وأمينه على بلاده ، والحاكم في أمر عباده، ليبلوني أأشكر أم أكفر . وقد بلغت لي ابنة ، وأريد تزويجها ، والنظر في تخيّر من يباعلها ، وقد رضيت لها عبد الله بن سلام القرشي ، لدينه وشرفه وفضله ومروءته وأدبه فأشيروا عليّ.
فقال له أبو هريرة وأبو الدرداء : إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها، وطلب مرضاته فيما خصّه بها منها ، لأنت ، فإنك صاحب رسول الله r ، وكاتبه وصهره . فقال معاوية : فأذكرا له ذلك عنى ، وقد جعلت لها في نفسها شورى ، غير أني أرجو ألا تخرج عن رأيي . فخرجا من عنده ، متوجهين إلى عبد الله بن سلام القرشي، بالذي قال لهما معاوية .
دخل معاوية على ابنته فقال لها : إذا دخل عليك أبو هريرة وأبو الدرداء ، فعرضا عليك عبد الله بن سلام ، وزواجي إياك منه ، وحضّاك على المسارعة إلى رضائي ، فقولي لهما : عبد الله بن سلام كفء كريم ، غير أن تحته أرينب بنت إسحق ، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء ، ولست بفاعلة حتى يفارقها .
وأما أبو الدرداء وأبو هريرة ، فإنهما لما وصلا إلى عبد الله بن سلام ، أعلماه بما قال معاوية ، فردّهما عبد الله إلى معاوية خاطبين عنه . فلما مثلا بين يدي معاوية ، قال لهما : إني كنت أعلمتكما أنني جعلت لها الشورى في نفسها ، فادخلا عليها ، وأعلماها بما رأيت لها ، فدخلا عليها ، وأعلماها بذلك . فقالت لهما كما قال لها أبوها من قبل ، فعادا إلى عبد الله بن سلام ، وأعلماه بذلك . فلما ظن أنه لا يمنعه منها إلا فراق أرينب ، أشهدهما على فراقها ، وبعثهما إليه خاطبين . فلما دخلا على معاوية أعلماه بطلاق أرينب . فأظهر معاوية ، كراهية ذلك ! وقال : ما استحسنت له طلاق زوجته ، ولا أحببته ، فانصرفا في عافية ، وعودا إلينا وكتب معاوية إلى ابنه يزيد بما كان من طلاق عبد الله بن سلام لأرينب بنت إسحق .
عاد أبو الدرداء وأبو هريرة إلى معاوية ، فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها عن رضاها ، وهو يقول : لم يكن لي أن أُكرِهَها ، وقد جعلت لها الشورى في نفسها ، فدخلا عليها ، وأعلماها بطلاق أُرينب ، ليسراها بذلك ، وذكرا شرفه وكرمه ومروءتَه وكريمَ مَحتِده . فقالت لهما : جفّ القلمُ بما هو كائن ، وإنه في قريش لَرفيعُ القَدْر ، وقد تعرفان أن الزواج ، جِدُّه جِد ، وهزله جِدّ كذلك ، والأناة في الأمور أوفق ، وإني سائلة عنه، حتى أعرف دخيلة خبره، ويصح لي بالذي أريد عمله من أمره ، فقالا لها : وفقك الله واختار لك . فلما أعلما عبد الله بقولها ، أنشأ يقول:
فإن يك صـــدر هذا اليوم ولَّى فإن غـــداً لناظره قــــــريب
وتحدث الناس بالذي كان من طلاق عبد الله بن سلام امرأته ، وخطبته ابنة معاوية ، وقالوا: لقد طلق حتى يفرغ من طلبته ، ويتحقق له الذي كان من بغيته ؟ واستحث عبد الله ، أبا هريرة وأبا الدرداء ، فأتياها وقالا لها : اصنعي ما أنتِ صانعة . واستخيري الله ، فإنه يهدي من استهداه . قالت : أرجو : والحمد لله أن يكون قد اختار ، فإنه سبحانه لا يكل إلى غيره من توكل عليه . وقد سبرت أمره ، وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسي مع اختلاف من استشرته فمنهم الناهي عنه ، والآمر به . واختلافهم أقل ما كرهت .
فلما بلغه كلامها ، علم أنها حيلة ، وأنه مخدوع ، وقال متعزياً : ليس لأمر الله راد ، ولا لما لابد منه صاد . فإن المرء وإن كمل له حلمه ، واجتمع له عقله ، واشتد رأيه ، ليس بدافع عن نفسه قدراً برأي لا بكيد . ولعل ما سُروا به ، لا يدوم لهم سروره ، ولا يُصرف عنهم محذوره .
-------------------------------------------------------
* ) دنيا المرأة ، مرجع سابق ، ص 146.
1) قصة داود عليه السلام في تفسير ابن كثير هي من الاسرائيليات التي لا يعتد بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق